After Header

قراءة نقدية للمعارضة الشعرية 

183

قراءة نقدية للمعارضة الشعرية 

قراءة الشاعر أحمد قنديل لقصيدتي المعارضة بين الشاعرين الشاذلي القرواشي و سنية المدّوري

المعارضة لغة ُعرّفها علماء اللغة على عدة أوجه، فيُقال عارض الشخص بالمسير أي سار، ومشى حياله، ويقال عارض الكتاب بالكتاب أي قابله، وعارض الشخص بمثل ما صنع أي أتى بمثل ما فعل

أمّا المعارضة كاصطلاح شعري تعريف شعر المعارضات بأنّه نظم شعرٍ موافق لشعرٍ آخر في موضوع معين، حيث يلتزم نظم الشعر الآخر في قافيته، وبحره، وموضوعه التزاماً تاماً يحرص فيه الشاعر على مضاهاة الشاعر المعَارَض في شعره إن لم يتفوق عليه، وقد يلجأ الشاعر إلى هذا النوع من الشعر عندما يرى في شعر غيره من الشعراء ما يمتاز به من فصاحة، وروعة صياغة، أو صور معبرة، وغيرها من أمور تثير في نفسه العجب. ومن أشهر المعارضات الشعرية معرضة أمير الشعراء أحمد شوقي لقصيدة البردة للإمام البوصيري , حتى قال بعض النقاد إن شوقي تفوق على نفسه في معارضة البوصيري ومن أبيات شوقي في نهج البردة ……..

ريم على القاع بين البان والعلم

أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم

رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً

يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم

لمّا رنا حدّثتني النفس قائلةً

يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي

..

معارضا الإمام البوصيري

في بأبياته التي منها

..

أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَم

مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ

أَم هَبَّتِ الريحُ مِن تلقــاءِ كــاظِمَةٍ

وأومَضَ البرقُ في الظَّلمـاءِ مِن إضَمِ

فما لِعَينـيك إن قُلتَ اكْفُفَـا هَمَـتَا

وما لقلبِكَ إن قلتَ اسـتَفِقْ يَهِــمِ

فكيفَ تُنْكِـرُ حبا بعدمـا شَــهِدَت

به عليـك عُدولُ الدمـعِ والسَّـقَمِ

وهنا أقف وقفة مع شاعرين رائعين تابعت معارضاتهما في أكثر من تص

و أقف رافعاً قبعة الإجادة للشاعرين الرائعين سنيا مدوري والشاعر الشاذلي القرواشي لسببين

.

الأول

أن قصيدة كل منهما نظمت لحالها واكتسبت تجربتها الشعرية من روعة موضوع المعارضة . وصدق الوجدان عند كليهما فليستا (أعني القصيدتين )ْ ليستا كقصائد النظم المفرغ من الموضوع والعاطفة ولكنهما قصيدتان توفر لكلتيهما القوة الشعرية واللغة الشاعرة وبكارة الصور وبعدهما عن النظم المخل الذي يعتمد على المجاراة اللفظية ورصف الكلمات دون حس أو شعور

والثاني

أن كلا الشاعرين يملك من الشعرية المفرطة وامتلاك الأدوات الشعرية ما ينأى بهما عن المعارضة الشكلية والفظية ورصف الكلمات والمعاني رصفا دون روح , بل نجد شخصية كل منهما واضحة في أبياته وخصوصيته الشعرية بادية في تصويره ومجازاته

فالقرواشي وعلى بحر الكامل يقول :ْ

كَمْ قُلْتِ لِي وَأَنَا الْمُسَجَّى فِي الْمَدَى

يَـا أَيُّهَـــا الْمَجْنٌـونُ بِي مَا أَعْـجَـــبَــكْ

أغرقتَ بَحْرَكَ فِي الْمَجَازِ فأغَرَقَكْ

وَنَثَرْتَ رُوحَكَ فِي التّرَابِ فَغَرَّبَكْ

ضِدَّانِ مِنْ جِينِ الْمِـيَاهِ تَقَـابَلَا

فَرَأَيْتَ وَجْهَكَ فِي التَّضَادِّ فَأَتْعَبَكْ

أَلْفَيْــتُكَ الْمَفْــتُونَ بِالْحُسْنِ الْجَـلِي

كَمْ أَنْتَ عَذَّبْتَ الْجَمَالَ.. فَعَذَّبكْ

اِرْجَعْ إِلَى طِينِ الْمَحَبَّةِ شَاعِرًا

إِنِّي أَرَى الْحُزْنَ الذِي قَدْ غَيَّبَكْ

مَا جِـئْتُ أَقْتَرِفُ الْقَصِيدَ لِأُقْنِعَكْ

إلخ

وواضح من النص قدرة القرواشي على الصياغة ورسم الصور الجزئية والكلية بمهارة شاعر

حيث ( المسجى بالمدى )ْ , (أغرقت بحرك )ْ

و(نثرت روحك)ْ.و (,جِينِ الْمِـيَاهِ)ْ , ( أُشْعِلُ فِي الْــكَمَــنْجَـــةِ جَــمْرَتِي)ْ

إلخ وكلها صور بكر لا يأتيها إلا شاعر شاعر

ولم يغفل الشاعر في نصه أن يرسم لنا صورة كلية لها إطارها التشكيلي وصورها الجزئية وعناصر الصوت واللون والحركة من خلال مناجاته لها وحواره معها متنكبا ألفاظ حوارية (كم قلت لي ).. و ( ونثرت)

أوْ جئتُ

أَوْ جِئْتُ

..

أما عن نص الشاعرة سنيا

فلم يكن نصها مجرد رد قولي أو مجرد رد فعل شعري بقدر ما كان عملا شعريا قائما بذاته وإن كان معارضا لنص القرواشي في وزنه وقافيته وبعض جذور لغته إلا أنها رسمت لنا بشعريتها لوحات جديدة وصورا بكرا

.

..

لفَظَ المجازُ ظلالَنا حين ارْتَبَكْ

فسَمَتْ رؤانا نجمةً كيْ تَتبعَكْ

منْ جينَة الأمْواءِ نَغزلُ نرجسًا

لمّا تبدَّى حُسنُهُ أفَلَ الفَلَكْ

وتقطّعتْ أيدي القَصيدَةِ لهْفَةً

كمْ راودتْ عنْ حرْفها مُذْ “هَيْتَ لَكْ”

يا أيّها الرّجلُ الإلهُ عَبدْتَني

فنضوْتُ عنْ جَسدي الدُّنى كيْ أعْبُدَكْ

رُوح تسَخّر للتَهجُّدِ ما بَرى

ربُّ العبادِ من الزّمانِ ومَا مَلَكْ

أهديْتَني سرَّ الدُّنى في همْسةٍ

ونفخْتَ في نايِي الحزينِ تنغُّمَكْ

هيّأتُ حضنَ الشّوقِ حتّى أنّني

عانقتُ في الإسراءِ غَيْمًا أمطَرَكْ

فرفعتُ كلّ اللُّبسِ عن قلبي الشّقي

ونطقتُ “أَشْهدُ أنَّ قلبي أدْمنَكْ”

.. إلخ

سنيا مدوري

.

, . تتقطع لهفة حيث المجاز ظلال .. و والرؤى نجمة .. و ..والنرجس غزلا .. و . وأيدي القصيدة ..

رُوح تسَخّر للتَهجُّدِ . و .. معانقة الغيم الممطر.. و. حاججَتْ فيكَ الجليدَ

إلخ .. كثيرة هي صورها التي ترقى بالنص وتجعله ضربا من التحدي الشعري الجميل .. فلا تعوزها اللغة .. ولا تتعثر في المعنى .. ولا تجافيها الأساليب

خبرها وإنشاؤها

الحقيقة استمتعت كثيرا بتلك المعارضة ولولا ضيق الوقت لأسهبت في نقاط الالتقاء بين النصين

دمتما شاعرين رائعين ..

الشاعر أحمد قنديل

 

للاطلاع على المزيد من مقالات الرأي الثقافية زر موقع ثقافتنا

التعليقات مغلقة.